قال تعالى: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر:99]، ففي هذه الآيةِ الكريمةِ دعوةٌ صريحةٌ منَ الله تعالى إلى عبده المؤمن، بضرورة المداوَمة على العبادة، حتى يلقى ربه، فاليقينُ في الآية هو الموت.
وقد ضَلَّتْ فئة منحرِفة عنِ الشرع، حين فسرتِ اليقين بمعرفة الله تعالى، فأسقطتِ التكاليف عنها، وعن أتْباعها، إذا توهم أحدهم أنه وصل إلى درجة المعرفة الحقة بالله، لأنَّ العباداتِ عندهم وسائلُ تتحقق من خلالها معرفة الله، ولا شك أنه لا حَظَّ لهذه الفئة منَ الإسلام، وما هي عليه هو الكفر بعينه.
إن المؤمن اليَقِظ يحرص على العبادة حتى تؤتي ثمارها، وتظهر عليه آثارها، فليس منَ الفطنة في شيء أن يعمدَ المسلم إلى القرآن، فيداوم على قراءته طوال شهر رمضان المبارك فتراه يقرأ في اليوم عدة أجزاء فإذا خرج رمضان لم تبقَ له بالقرآن الكريم صلة تُذْكَر، ولا موعد منتَظم، هذا المسلك غير محمودٍ بحالٍ، ولو كان رمضان شهر القرآن، فهذا لا يسوغ لصاحبه أن ينتهجَ هذا المنهج.
إنَّ المداوَمة على العمل الصالح تمدُّ المؤمن بالهمة على مجاهدة نفسه، وتبعد عنه الغفلة، ولهذا حَثَّ الرسول صلى الله عليه وسلم على المداوَمة على الأعمال، وإن كانت يسيرة قليلة، ففي الحديث الذي يرويه مسلم، عن عائشة رضي الله عنها، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «أحب الأعمال إلى الله تعالى، أدومها، وإن قلَّ»، يقول الإمام النووي في شرحه لهذا الحديث: إنَّ القليل الدائم خيرٌ منَ الكثير المنقطع، وإنما كان القليل الدائمُ خيرًا منَ الكثير المنقطع، لأنه بدوام القليل تدوم الطاعة، والذكر، والمراقبة، والنية، والإخلاص، والإقبال على الله سبحانه، ويستمر القليل الدائم، بحيث يزيد على الكثير المنقطع أضعافًا كثيرة، ولهذا قال بعض الحكماء: إذا غفلت النفس بترْك العبادة، فلا تأمن أن تعودَ إلى عاداتها السيئة، وصدق ابن حزم حين قال: إهمال ساعة، يفسد رياضة سنة.
يقول القرطبي معلقا على هذه الآية الكريمة: فإن قيل فما فائدة قوله: {حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} وكان قوله: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ} كافيا في الأمر بالعبادة، قيل له: الفائدة في هذا أنه لو قال: {واعبد ربك} مطلقا ثم عبده مرة واحدة كان مطيعا، وإذا قال {حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} كان معناه: لا تفارق هذا حتى تموت، والمراد إستمرار العبادة مدة حياته، كما قال العبد الصالح: {وأوصَانِي بالصَّلاةِ والزَّكاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا}.
والدليل على أن اليقين الموت حديث أم العلاء الأنصارية، وكانت من المبايعات، وفيه: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أما عثمان- أعني عثمان بن مظعون- فقد جاءه اليقين، وإني لأرجو له الخير، والله ما أدري وأنا رسول الله ما يفعل به» وذكر الحديث -انفرد بإخراجه البخاري رحمه الله، وكان عمر بن عبد العزيز يقول: ما رأيت يقينا أشبه بالشك من يقين الناس بالموت ثم لا يستعدون له، يعني كأنهم فيه شاكون -تفسير القرطبي، سورة الحجر.
نخلص من هذا إلى أن المسلم الحريص لا ينبغي له أن يغفلَ عن هذا المعنى الجليل، وهو ضرورة المداوَمة على العبادة، فمنَ الخُسران المبين أن يقطعَ عبادة داوَمَ عليها فترةً منَ الزَّمَن.
المصدر: موقع دعوة الأنبياء.